اليمن تحول إلى متاهة مستقلة بممرات مستحدثة
يمنات
لطف الصراري
يوماً بعد آخر، تصبح الحرب في اليمن أكثر شبهاً بمتاهة حديثة الإنشاء وبلا مخرج. ليس هذا مجرد تشبيه مجازي، ربما جرى تشبيه بعض الحروب بالمتاهة، لكنها في اليمن تأخذ شكل متاهة دائرية من النوع الذي يتلاشى فيها الفرق بين المجاز والتطابق التعبيري للكلمة، بين الواقع والخيال، وبين اللعب والحقيقة الكابوسية. لذلك، تحتاج الأطراف المتحاربة إلى إلهام خارق ليعرفوا أن هناك من يبني المزيد من الممرات المضللة كلما اقتربوا من المخرج الصحيح. وكما لو أننا قُذفنا إلى داخل أحداث فيلم سينمائي مستوحى من قصور المتاهات القديمة، تستمر القوى الشريرةّ في إغلاق كل طريق يفضي إلى المَخرج.
في فيلم «عدّاء المتاهة»، يستيقظ بطل الفيلم ليجد نفسه في مصعد ينفتح على منطقة غريبة محاطة بجدران ضخمة، وفيها بعض الصبية الذين لا يعرفون كيف جاؤوا إلى المكان، لكنهم يعرفون «أن وراء تلك الجدران متاهة غريبة» لا يعرف حلّها أيّ منهم، وأنهم إذا حلوها سيتمكنوا من العودة إلى منازلهم. وكما هي العادة في الأفلام الأمريكية، لا تخلو المجموعة من بطل يوصل ما تبقى منها إلى برّ الأمان.
لكننا بلا أبطال، وقادتنا لا يحبون السينما والفن والأدب، رغم أنهم، بتشبيه مجازي صرف، يحبون الاستعانة بمُخرجين أمريكيين وبريطانيين بارعين في رسم المتاهات وإظهار مخارجها في الوقت الذي يرونه مناسباً.
تفيد الكثير من الوثائق السياسية والعسكرية بأن أمريكا وبريطانيا «بجانبهما فرنسا، وإيطاليا إلى حدّ ما»، هما أكثر دولتين مسؤولتان عن رسم معظم متاهات الفوضى، ليس في اليمن وحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مروراً بالحربين العالميتين وسنوات «الحرب الباردة»، إلى السنوات السبع والعشرين الماضية، التي يمكن اعتبارها ضمن تصنيف المؤرخ البريطاني إريك هوبزبام «ما بعد انهيار أنظمة القوة التقليدية»، كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية أسوأ نموذجين لرعاية السلام العالمي والديمقراطية. في المنطقة العربية والإسلامية، تميزت سياستهما بطابع حشر الأنف في شؤون الدول إلى درجة التحدّث باسم شعوبها. وقد عملتا كل ما بوسعهما لطمس دولة فلسطين من خريطة المنطقة وجغرافيتها، ورسمت بدلاً عنها، دولة ذات طابع ديني باسم اليهود.
وخلال قرن كامل، استغلت بريطانيا وأمريكا مظالم اليهود حول العالم للسيطرة على العرب والمسلمين، ولم تكتفيان بزرع دولة إسرائيل في المنطقة، بل تعدى الأمر إلى استغلال التنوع الديني والمذهبي والعرقي لدول وشعوب المنطقة، إلى زرع بذور الشقاق بينها، وتعهدتاه برعاية فائقة ومتجددة، وبطريقة لا تخشى التناقض. دعمتا الإطاحة بأنظمة حكم وتصعيد أنظمة أخرى، الثابت في كل ذلك، هو مصالحها الاستراتيجية وأمن إسرائيل. ومنذ العام 2011، بدا أن سياسة الإطاحة الخاطفة بالأنظمة السياسية والتصعيد السريع للأنظمة البديلة، باتت قديمة الطراز بالنسبة لهما، وبالنسبة لواقع المجتمعات العربية أيضاً. ذلك أن هذه السياسة كلفتهما الكثير من الخسائر في أفغانستان، العراق، والصومال.
هكذا كان على «الفوضى الخلاقة» التي تم الترويج لها بكثافة قبيل «الربيع العربي»، أن تتخذ شكل الحرب ومضامينها في سوريا، ليبيا واليمن، من أجل إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بأكملها. ولمواكبة ذلك، مضت أمريكا وبريطانيا في رسم ممرات جديدة للمتاهة، غير عابئتين بموازين القوى العالمية، وما يترتب على العبث بمصالحها وحساباتها في المنطقة. هكذا تحولت ثورات «الربيع العربي» إلى لعنة تتفشى في جسد العالم. واليمن التي كانت مجرد ممر جديد في المتاهة الكبيرة، لم تلبث أن تحولت إلى متاهة مستقلة بممرات مستحدثة، شديدة التعقيد وبلا مخرج منظور حتى الآن. متاهة مغلقة بإحكام، بحيث تدفع التائهين فيها للإيمان المطلق بأن «الأسلحة الذكية» وحدها من يمكنها إيجاد المخرج الصحيح.
المصدر: العربي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.